غزة- تاريخ من المقاومة والتحدي في وجه الغزاة والحصار.

المؤلف: د. محمد الهندي08.11.2025
غزة- تاريخ من المقاومة والتحدي في وجه الغزاة والحصار.

تُعتبر غزة شريطًا ساحليًا ضيقًا يقع على امتداد الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، جنوب فلسطين. تغطي مساحة تقدر بحوالي 365 كيلومترًا مربعًا، وهو ما يمثل نحو 1.33% من إجمالي مساحة فلسطين التاريخية. يمتد طول القطاع قرابة 41 كيلومترًا، بينما يتراوح عرضه بين 6 و 12 كيلومترًا. يسكن هذه البقعة الجغرافية الهامة قرابة 2.4 مليون فلسطيني. ظلت غزة تحت الإدارة المصرية منذ عام 1948، ثم فقدت مصر السيطرة عليها في حرب عام 1967. بعد ذلك، خضعت للحكم العسكري الإسرائيلي حتى قيام السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات أوسلو عام 1994. في عام 2007، انتقلت إدارة القطاع إلى حركة حماس بعد عملية الحسم، ومنذ ذلك الحين، تخضع غزة لحصار صهيوني خانق برًا وبحرًا وجوًا، مما أثر بشدة على حياة السكان وظروفهم المعيشية.

التصدي للغزاة

على مر العصور، لعبت غزة دورًا محوريًا في مقاومة الغزاة في المنطقة، حيث صمدت في وجههم ورفضت الخضوع، وحفرت الأنفاق وتمرّدت على كل من سعى للسيطرة عليها.

لقد قاومت غزة الصليبيين ببسالة عندما حاولوا تدميرها، وتصدت ببسالة ايضًا لحملة نابليون بونابرت على بلاد الشام، كما قاتلت جنبًا إلى جنب مع العثمانيين ضد الغزو البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى لأكثر من سبعة أشهر متواصلة، إلى أن سقطت في يد الجنرال البريطاني اللنبي بعد تكبده خسائر فادحة في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1917.

بعد الحرب العالمية الأولى، خضعت فلسطين للانتداب البريطاني، وقاومها الفلسطينيون بكل قوة وثبات من عام 1920 وحتى إعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948.

في أعقاب نكبة عام 1948، استقبل قطاع غزة، الذي كان يقطنه حوالي 80 ألف نسمة، ما يقارب 200 ألف لاجئ من القرى والبلدات والمدن الواقعة في جنوب فلسطين. استقر هؤلاء اللاجئون في ثمانية مخيمات لجوء فلسطينية منتشرة في جميع أنحاء القطاع. يشكل اليوم عدد اللاجئين من أبنائهم وأحفادهم حوالي ثلاثة أرباع سكان القطاع، مما يعكس حجم المأساة الإنسانية التي حلت بالشعب الفلسطيني.

إن هذا التدفق الهائل من اللاجئين إلى قطاع غزة قد زرع بذور ما يسمى بـ "تحدي غزة"، والذي يتجسد في النمو الديموغرافي السكاني من جانب، وفي المقاومة المستمرة من جانب آخر. هذا التحدي سرعان ما ظهر واستمر، وأصبح يشكل معضلة كبيرة للمحتل لم يتمكن من حلها حتى يومنا هذا، على الرغم من سلسلة الجرائم والمؤامرات التي لم تتوقف، والتي بدأها المحتل في وقت مبكر من خلال طرح مشاريع توطين اللاجئين في سيناء، بهدف منعهم من العودة إلى ديارهم وإنهاء حق العودة المقدس.

في عام 1953، تم طرح مشروع لتوطين 12 ألف أسرة لاجئة من قطاع غزة في منطقة تقع في شمال غرب سيناء. حظي هذا المشروع بموافقة تحت ضغط أميركي قوي، وخصصت له الإدارة الأميركية مبلغ 30 مليون دولار.

بعد عدوان عام 1967، طرح الوزير الصهيوني إيغال آلون مشروعًا لنقل اللاجئين من غزة إلى منطقة العريش، ثم عاد شارون وطرح مرة أخرى فكرة نقل 12 ألف أسرة من غزة إلى سيناء.

وفي حملة دموية قادها قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، شارون، حاول تصفية المقاومة المسلحة (قوات التحرير) في عام 1971، ونفذ مشروعًا لاقتلاع 12 ألف لاجئ من مخيمّي الشاطئ وجباليا بهدف توسيع شوارع المخيمات وهدم المنازل، ليتمكن جيش الاحتلال من ملاحقة الفدائيين. نتج عن خطة الترحيل هذه إنشاء مشروع الشيخ رضوان في شرق مخيم الشاطئ، ومشروع بيت لاهيا في شرق مخيم جباليا.

مركز الفدائيين

بعد نكبة عام 1948، اندلعت المقاومة بشكل مبكر في قطاع غزة. مع بداية الخمسينيات، بدأت عمليات إغارة من قبل الفدائيين الذين كانوا يتسللون من غزة إلى قراهم الموجودة داخل الأرض المحتلة، لتخريب المنشآت الصهيونية ونهب مزارع المستعمرات. رد الصهاينة بقيادة شارون بارتكاب مجزرة البريج التي أودت بحياة حوالي 50 شهيدًا.

في عام 1953، تفجرت الأوضاع في غزة رفضًا لمشروع التوطين في سيناء، وتشكلت كتيبة باسم (مصطفى حافظ)، ونفذت عمليات جريئة ضد الكيان الصهيوني.

بعد احتلال غزة في العدوان الثلاثي عام 1956، أصبحت غزة مركزًا للفدائيين، بمثابة (عش الدبابير)، ووقعت أثناء الاحتلال مذبحة خان يونس التي راح ضحيتها 275 شهيدًا، ومذبحة رفح التي أودت بحياة أكثر من مئة شهيد.

بعد انتهاء عدوان عام 1956، تشكلت مجموعات فدائية انخرط فيها أبناء غزة من مختلف التوجهات السياسية، من الإخوان المسلمين وحتى الشيوعيين. بعض هؤلاء الفدائيين أصبحوا قادة في حركة فتح فيما بعد، مثل: "ياسر عرفات، خليل الوزير، صلاح خلف، فتحي البلعاوي" وغيرهم. ثم تشكلت قوات "عين جالوت" التابعة لجيش التحرير الفلسطيني في القاهرة، وكان معظم المنتسبين إليها من أبناء قطاع غزة.

بعد احتلال قطاع غزة في عام 1967 مباشرة، بدأ تشكيل الخلايا السرية بمشاركة بقايا جيش التحرير الفلسطيني. أعاد (زياد الحسيني) (1943 – 1971) تشكيل خلايا "قوات التحرير" التي نفذت أعمالًا جريئة وقوية في جميع أنحاء القطاع. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت ظاهرة جيفارا غزة "محمد الأسود"، وظاهرة "رفيق السالمي" من حركة فتح الذي قام بتصفية العملاء في مشاهد علنية.

غطّت عمليات الفدائيين مدن ومخيمات القطاع، لدرجة انتشار عبارة منسوبة إلى شارون يقول فيها: "إننا نسيطر على قطاع غزة نهارًا، بينما يسيطر عليه الفدائيون ليلًا".

بعد خروج قوات منظمة التحرير من بيروت على أثر عدوان عام 1982، عادت غزة إلى الواجهة كقاعدة للنضال الوطني. ونظرًا لأن قبضة جيش الاحتلال كانت قوية وتلاحق أي قطعة سلاح في غزة، فقد تشكلت ظاهرة (ثورة السكاكين) على يد أبناء حركة الجهاد الإسلامي في غزة بهدف إفشال خطة الحدود المفتوحة بين غزة وإسرائيل.

صدام شعبي واسع

هذه العمليات وروح المقاومة المتأججة ولّدت زخمًا جديدًا بعد هروب ستة مقاتلين من حركة الجهاد الإسلامي من سجن غزة المركزي في مايو/أيار من عام 1987، وقيامهم بعمليات جريئة ضد جنود الاحتلال، ثم استشهادهم في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في منطقة الشجاعية يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1987، مما مهد المشهد لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) من قطاع غزة.

ويمكن اعتبار الانتفاضة الأولى أوسع مواجهة شعبية مع الاحتلال وقواته منذ عام 1948، حيث امتدت من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، وحظيت بمساندة من فلسطينيي الـ 48 والشتات. لقد غيرت هذه الانتفاضة المشهد النضالي الفلسطيني مع ظهور لاعبين جدد على الساحة مثل: "الجهاد الإسلامي"، و"حماس" التي تأسَّست مع بداية الانتفاضة. كما أبدعت المقاومة في استحداث طرق جديدة للقتال، وعلى رأسها "العمليات الاستشهادية" بهدف تعديل ميزان القوى المختل، وتحقيق الردع المتبادل. كذلك، فإن الخطاب السياسي والتعبوي أخذ طابعًا دينيًا بعد أن كان مقتصرًا على البعد الوطني، أو اليسار الأممي.

بعد فشل الاحتلال ورئيس وزرائه آنذاك، إسحاق رابين، في سياسة (كسر العظام) بهدف إخماد الانتفاضة، قال العبارة المشهورة المنسوبة إليه: "أتمنى أن نستيقظ ونرى غزة وقد غرقت في البحر". ثم استدار رابين 180 درجة ليتفاوض مع "م.ت.ف"، وتوقيع اتفاق أوسلو في محاولة يائسة لإخماد مقاومة الشعب الفلسطيني وسلب جميع أوراق القوة منه.

ولأن منطق المستحيل لا يسري على تصميم شعبنا العظيم، فقد استمرت المقاومة في تنفيذ العمليات المسلحة، وخاصة العمليات الاستشهادية التي أربكت المحتل. كان من أبرز هذه العمليات، عملية بيت ليد الاستشهادية المزدوجة التي نفذها عضوا حركة الجهاد الإسلامي (صلاح شاكر وأنور سكر) في يناير/كانون الثاني من عام 1995، والتي تعتبر أهم عملية ضد جنود الاحتلال منذ عام 1948.

لم يمضِ سوى خمس سنوات على اتفاق أوسلو، حتى عاد الشعب الفلسطيني إلى مساره الطبيعي في انتفاضة عام 2000، بعد أن اكتشف ياسر عرفات السراب الكاذب لاتفاق اوسلو خلال مفاوضات (كامب ديفيد 2). تصاعدت المقاومة وتطورت في غزة خلال انتفاضة عام 2000، وأرسلت حركتا الجهاد الإسلامي وحماس الاستشهاديين لتنفيذ عمليات جريئة داخل الكيان الصهيوني، وكانت أولى هذه العمليات عملية الجهاد الإسلامي التي نفذها الشهيد (نبيل العرعير).

توالت العمليات ضد مستوطنات قطاع غزة التي كانت تسيطر على حوالي 45% من مساحة القطاع، ويسكنها حوالي 7500 مستعمر صهيوني، يتولى حمايتهم 15 ألف جندي. هذا الوضع دفع المحتل في عام 2005، حين كان (أبو الاستيطان) أرئيل شارون رئيسًا للوزراء، إلى اتخاذ قرار جريء بسحب قواته من قطاع غزة، وتفكيك المستعمرات، مغامرًا بانقسام حزبه (الليكود)، وتشكيل حزب جديد باسم (كاديما)، مع تحويل غزة إلى سجن كبير تحاصره قوات الاحتلال برًا وبحرًا وجوًا، والتهديد بتدمير القطاع إذا واصل المقاومة.

قلعة المقاومة

في عام 2006، شاركت حركة حماس في الانتخابات التشريعية وفازت بأغلبية المقاعد، ثم سيطرت على قطاع غزة في يونيو/حزيران من عام 2007، لتقوم إسرائيل بإعلان القطاع كيانًا معادياً يخضع لحصار شامل.

منذ ذلك الحين، تحول القطاع – تحت إدارة حماس – إلى قلعة حصينة للمقاومة. قامت حماس وحركة الجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة الأخرى بتطوير الصواريخ والقذائف محلية الصنع، ومضادات الدروع، والأنفاق، بالتوازي مع التعبئة العقائدية.

في مواجهة تحدّي غزة، التي قاومت بشدة جميع محاولات عزلها عن القضايا الوطنية، وتصدّت ببسالة لسياسات الانفراد بالقدس والأقصى، تعرض القطاع لعنف صهيوني بالغ خلال العقد ونصفٍ الماضي وهاجمت إسرائيل القطاع في حروب مدمرة متتالية في الأعوام: 2008 /2009، 2012، 2014، 2019، 2021، 2022، لكن المقاومة الفلسطينية تصدت لهذه الاعتداءات بكل اقتدار، مستندة إلى دعم شعبي راسخ.

في ظل صمود غزة الأسطوري في وجه الحصار، وفشل الحروب المتكررة في كسر إرادتها، تفجّرت (مسيرات العودة)، لجأ المحتل إلى سياسة "الحصار والتهدئة"، بتقديم تسهيلات محدودة يتم سحبها كعقاب على أي توتر أمني.

وما إن امتلكت المقاومة في قطاع غزة إمكانات معقولة للدفاع عن نفسها، حتى فاجأت المحتل بعملية (سيف القدس)، عندما بادرت المقاومة لأول مرة بقصف القدس المحتلة دفاعًا عن أهلها ومقدساتها في تحدّ كبير للاحتلال، متجاوزة تهديداته، وملقية بالتصريحات والإدانات الجوفاء الصادرة في المنطقة حول القدس والأقصى في سلة المهملات.

لم يدرك أحد في العالم أو في الإقليم أن معركة (سيف القدس) يمكن أن تكون بمثابة إرهاص وتمهيد لـ (طوفان الأقصى) إذا استمرت إسرائيل في عدوانها وجرائمها، وواصلت أميركا سياسة التنكر للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، والإمعان في تصفية القضية الفلسطينية، وحصار غزة التي تحولت إلى معضلة مستعصية على الحل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة